كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



في مكابدة ومشقة، وجهد وكد، وكفاح وكدح.. كما قال في السورة الأخرى: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه}..
الخلية الأولى لا تستقر في الرحم حتى تبدأ في الكبد والكدح والنصب لتوفر لنفسها الظروف الملائمة للحياة والغذاء بإذن ربها وما تزال كذلك حتى تنتهي إلى المخرج، فتذوق من المخاض إلى جانب ما تذوقه الوالدة ما تذوق. وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ضغط ودفع حتى كاد يختنق في مخرجه من الرحم!
ومنذ هذه اللحظة يبدأ الجهد الأشق والكبد الأمر. يبدأ الجنين ليتنفس هذا الهواء الذي لا عهد له به، ويفتح فمه ورئتيه لأول مرة ليشهق ويزفر في صراخ يشي بمشقة البداية! وتبدأ دورته الهضمية ودورته الدموية في العمل على غير عادة! ويعاني في إخراج الفضلات حتى يروض أمعاءه على هذا العمل الجديد! وكل خطوة بعد ذلك كبد، وكل حركة بعد ذلك كبد. والذي يلاحظ الوليد عندما يهم بالحبو وعندما يهم بالمشي يدرك كم يبذل من الجهد العنيف للقيام بهذه الحركة الساذجة.
وعند بروز الأسنان كبد. وعند انتصاب القامة كبد. وعند الخطو الثابت كبد. وعند التعلم كبد. وعند التفكر كبد. وفي كل تجربة جديدة كبد كتجربة الحبو والمشي سواء!
ثم تفترق الطرق، وتتنوع المشاق؛ هذا يكدح بعضلاته. وهذا يكدح بفكره. وهذا يكدح بروحه. وهذا يكدح للقمة العيش وخرقة الكساء. وهذا يكدح ليجعل الألف ألفين وعشرة آلاف.. وهذا يكدح لملك أو جاه، وهذا يكدح في سبيل الله. وهذا يكدح لشهوة ونزوة. وهذا يكدح لعقيدة ودعوة. وهذا يكدح إلى النار. وهذا يكدح إلى الجنة.. والكل يحمل حمله ويصعد الطريق كادحاً إلى ربه فيلقاه! وهناك يكون الكبد الأكبر للأشقياء. وتكون الراحة الكبرى للسعداء.
إنه الكبد طبيعة الحياة الدنيا. تختلف أشكاله وأسبابه. ولكنه هو الكبد في النهاية. فأخسر الخاسرين هو من يعاني كبد الحياة الدنيا لينتهي إلى الكبد الأشق الأمرّ في الأخرى. وأفلح الفالحين من يكدح في الطريق إلى ربه ليلقاه بمؤهلات تنهي عنه كبد الحياة، وتنتهي به إلى الراحة الكبرى في ظلال الله.
على أن في الأرض ذاتها بعض الجزاء على ألوان الكدح والعناء. إن الذي يكدح للأمر الجليل ليس كالذي يكدح للأمر الحقير.
ليس مثله طمأنينة بال وارتياحاً للبذل، واسترواحاً بالتضحية، فالذي يكدح وهو طليق من أثقال الطين، أو للانطلاق من هذه الأثقال، ليس كالذي يكدح ليغوص في الوحل ويلصق بالأرض كالحشرات والديدان! والذي يموت في سبيل دعوة ليس كالذي يموت في سبيل نزوة.. ليس مثله في خاصة شعوره بالجهد والكبد الذي يلقاه.
وبعد تقرير هذه الحقيقة عن طبيعة الحياة الإنسانية يناقش بعض دعاوى الإنسان وتصوراته التي تشي بها تصرفاته:
{أيحسب أن لن يقدر عليه أحد يقول أهلكت مالاً لبدا أيحسب أن لم يره أحد}.
إن هذا الإنسان المخلوق في كبد، الذي لا يخلص من عناء الكدح والكد، لينسى حقيقة حاله وينخدع بما يعطيه خالقه من أطراف القوة والقدرة والوجدان والمتاع، فيتصرف تصرف الذي لا يحسب أنه مأخوذ بعمله، ولا يتوقع أن يقدر عليه قادر فيحاسبه.. فيطغى ويبطش ويسلب وينهب، ويجمع ويكثر، ويفسق ويفجر، دون أن يخشى ودون أن يتحرج.. وهذه هي صفة الإنسان الذي يعرى قلبه من الإيمان.
ثم إنه إذا دعي للخير والبذل (في مثل المواضع التي ورد ذكرها في السورة) {يقول أهلكت مالاً لبداً}.. وأنفقت شيئاً كثيراً فحسبي ما أنفقت وما بذلت! {أيحسب أن لم يره أحد}؟ وينسى أن عين الله عليه، وأن علمه محيط به، فهو يرى ما أنفق، ولماذا أنفق؟ ولكن هذا الإنسان كأنما ينسى هذه الحقيقة، ويحسب أنه في خفاء عن عين الله!
وأمام هذا الغرور الذي يخيل للإنسان أنه ذو منعة وقوة، وأمام ضنه بالمال وادعائه أنه بذل الكثير، يجابهه القرآن بفيض الآلاء عليه في خاصة نفسه، وفي صميم تكوينه، وفي خصائص طبيعته واستعدادته، تلك الآلاء التي لم يشكرها ولم يقم بحقها عنده:
{ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين}..
إن الإنسان يغتر بقوته، والله هو المنعم عليه بهذا القدر من القوة. ويضن بالمال. والله هو المنعم عليه بهذا المال. ولا يهتدي ولا يشكر، وقد جعل له من الحواس ما يهديه في عالم المحسوسات: جعل له عينين على هذا القدر من الدقة في تركيبهما وفي قدرتهما على الإبصار. وميزه بالنطق، وأعطاه أداته المحكمة: {ولساناً وشفتين}.. ثم أودع نفسه خصائص القدرة على إدراك الخير والشر، والهدى والضلال، والحق والباطل: {وهديناه النجدين}.. ليختار أيهما شاء، ففي طبيعته هذا الاستعداد المزدوج لسلوك أي النجدين. والنجد الطريق المرتفع. وقد اقتضت مشيئة الله أن تمنحه القدرة على سلوك أيهما شاء، وأن تخلقه بهذا الازدواج طبقاً لحكمة الله في الخلق، وإعطاء كل شيء خلقه، وتيسيره لوظيفته في هذا الوجود.
وهذه الآية تكشف عن حقيقة الطبيعة الإنسانية؛ كما أنها تمثل قاعدة النظرية النفسية الإسلامية هي والآيات الأخرى في سورة الشمس:
{ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} (وسنرجئ عرضها بشيء من التفصيل إلى الموضع الآخر في سورة الشمس لأنه أوسع مجالاً).
هذه الآلاء التي أفاضها الله على الجنس الإنسان في خاصة نفسه، وفي صميم تكوينه، والتي من شأنها أن تعينه على الهدى: عيناه بما تريان في صفحات هذا الكون من دلائل القدرة وموحيات الإيمان؛ وهي معروضة في صفحات الكون مبثوثة في حناياه. ولسانه وشفتاه وهما أداة البيان والتعبير؛ وعنهما يملك الإنسان أن يفعل الشيء الكثير. والكلمة أحياناً تقوم مقام السيف والقذيفة وأكثر؛ وأحياناً تهوي بصاحبها في النار كما ترفعه أو تخفضه. في هذه النار.. عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبحت يوماً قريباً منه، ونحن نسير، فقلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار. قال: «سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل شعار الصالحين. ثم تلا قوله تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع.....}. ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد. ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: كف عليك هذا، وأشار إلى لسانه. قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟»رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه.
وهدايته إلى إدراك الخير والشر، ومعرفة الطريق إلى الجنة والطريق إلى النار، وإعانته على الخير بهذه الهداية..
هذه الآلاء كلها لم تدفع هذا الإنسان إلى اقتحام العقبة التي تحول بينه وبين الجنة. هذه العقبة التي يبينها الله له في هذه الآيات:
{فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك أصحاب الميمنة}..
هذه هي العقبة التي يقتحمها الإنسان إلا من استعان بالإيمان هذه هي العقبة التي تقف بينه وبين الجنة. لو تخطاها لوصل! وتصويرها كذلك حافز قوي، واستجاشة للقلب البشري، وتحريك له ليقتحم العقبة وقد وضحت ووضح معها أنها الحائل بينه وبين هذا المكسب الضخم.. {فلا اقتحم العقبة}! ففيه تحضيض ودفع وترغيب!
ثم تفخيم لهذا الشأن وتعظيم: {وما أدراك ما العقبة}.
إنه ليس تضخيم العقبة، ولكنه تعظيم شأنها عند الله، ليحفز به الإنسان إلى اقتحامها وتخطيها؛ مهما تتطلب من جهد ومن كبد. فالكبد واقع واقع. وحين يبذل لاقتحام العقبة يؤتي ثمره ويعوض المقتحم عما يكابده، ولا يذهب ضياعاً وهو واقع واقع على كل حال!
ويبدأ كشف العقبة وبيان طبيعتها بالأمر الذي كانت البيئة الخاصة التي تواجهها الدعوة في أمسّ الحاجة إليه: فك الرقاب العانية؛ وإطعام الطعام والحاجة إليه ماسة للضعاف الذين تقسو عليهم البيئة الجاحدة المتكالبة، وينتهي بالأمر الذي لا يتعلق ببيئة خاصة ولا بزمان خاص، والذي تواجهه النفوس جميعاً، وهي تتخطى العقبة إلى النجاة: {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}..
وقد ورد أن فك الرقبة هو المشاركة في عتقها، وأن العتق هو الاستقلال بهذا.. وأياً ما كان المقصود فالنتيجة الحاصلة واحدة.
وقد نزل هذا النص والإسلام في مكة محاصر؛ وليست له دولة تقوم على شريعته. وكان الرق عاماً في الجزيرة العربية وفي العالم من حولها. وكان الرقيق يعاملون معاملة قاسية على الإطلاق. فلما أن أسلم بعضهم كعمار بن ياسر وأسرته، وبلال بن رباح، وصهيب.. وغيرهم رضي الله عنهم جميعاً اشتد عليهم البلاء من سادتهم العتاة، وأسلموهم إلى تعذيب لا يطاق. وبدا أن طريق الخلاص لهم هو تحريرهم بشرائهم من سادتهم القساة، فكان أبو بكر رضي الله عنه هو السابق كعادته دائماً إلى التلبية والاستجابة في ثبات وطمأنينة واستقامة..
قال ابن إسحاق: وكان بلال مولى أبي بكر رضي الله عنهما لبعض بني جمح مولدا من مولديهم وكان صادق الإسلام، طاهر القلب، وكان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة؛ ثم يأمرهم بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى. فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد...
حتى مر به أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوماً وهم يصنعون ذلك به وكانت دار أبي بكر في بني جمح. فقال لأمية بن خلف، ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟ قال: أنت الذي أفسدته فأنقذه مما ترى. فقال أبو بكر: أفعل. عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، على دينك أعطيكه به. قال: قد قبلت. قال: هو لك. فأعطاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه غلامه ذلك وأخذه وأعتقه.
ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب. بلال سابعهم: عامر بن فهيرة (شهد بدراً وقتل يوم بئر معونة شهيداً) وأم عبيس، وزنيرة.
(وأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى! فقالت: كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعان. فرد الله بصرها) وأعتق النهدية وابنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول: والله لا أعتقكما أبداً. فقال أبو بكر رضي الله عنه حلٌ يا أم فلان (أي تحللي من يمينك) فقالت: حل! أنت أفسدتهما فأعتقهما. قال فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا. قال: قد أخذتهما وهما حرتان. أرجعا إليها طحينها. قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟ قال: ذلك إن شئتما.
ومر بجارية بني مؤمل هي من بني عدي وكانت مسلمة، وكان عمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام وهو يومئذ مشرك وهو يضربها، حتى إذا مل قال: إني أعتذر إليك، إني لم أتركك إلا ملالة! فتقول: كذلك فعل الله بك! فابتاعها أبو بكر فأعتقها.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عبد الله بن أبي عتيق، عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن بعض أهله، قال: قال أبو قحافة لأبي بكر: يا بني إني أراك تعتق رقاباً ضعافاً. فلو أنك إذا فعلت ما فعلت أعتقت رجالاً جُلدا يمنعونك ويقومون دونك! قال: فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا أبت إني إنما أريد ما أريد لله....
لقد كان رضي الله عنه يقتحم العقبة وهو يعتق هذه الرقاب العانية.. لله.. وكانت الملابسات الحاضرة في البيئة تجعل هذا العمل يذكر في مقدمة الخطوات والوثنيات لاقتحام العقبة في سبيل الله.
{أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتمياً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة}..
والمسغبة: المجاعة، ويوم المجاعة الذي يعز فيه الطعام هو محك لحقيقة الإيمان. وقد كان اليتيم يجد في البيئة الجاهلية المتكالبة الخسف والغبن. ولو كان ذا قربى. وقد حفل القرآن بالوصية باليتيم. مما يدل على قسوة البيئة من حول اليتامى. وظلت هذه الوصايا تتوالى حتى في السور المدنية بمناسبة تشريعات الميراث والوصاية والزواج. وقد مر منها الكثير في سورة النساء خاصة.. وفي سورة البقرة وغيرهما. وكذلك إطعام المسكين ذي المتربة أي اللاصق بالتراب من بؤسه وشدة حاله في يوم المسغبة يقدمه السياق القرآني خطوة في سبيل اقتحام العقبة، لأنه محك للمشاعر الإيمانية من رحمة وعطف وتكافل وإيثار، ومراقبة لله في عياله، في يوم الشدة والمجاعة والحاجة. وهاتان الخطوتان: فك الرقاب وإطعام الطعام كانتا من إيحاءات البيئة الملحة، وإن كانت لهما صفة العموم، ومن ثم قدمها في الذكر. ثم عقب بالوثبة الكبرى الشاملة:
{ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}.
و{ثم} هنا ليست للتراخي الزمني، إنما هي للتراخي المعنوي باعتبار هذه الخطوة هي الأشمل والأوسع نطاقاً والأعلى أفقاً. وإلا فما ينفع فك رقاب ولا إطعام طعام بلا إيمان. فالإيمان مفروض وقوعه قبل فك الرقاب وإطعام الطعام. وهو الذي يجعل للعمل الصالح وزناً في ميزان الله. لأنه بمنهج ثابت مطرد. فلا يكون الخير فلتة عارضة ترضية لمزاج متقلب، أو ابتغاء محمدة من البيئة أو مصلحة.
وكأنما قال: فك رقبة. أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيماً ذا مقربة، أو مسكيناً ذا متربة.. وفوق ذلك كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة. فثم هنا لإفادة معنى الفضل والعلو.
والصبر هو العنصر الضروري للإيمان بصفة عامة، ولاقتحام العقبة بصفة خاصة. والتواصي به يقرر درجة وراء درجة الصبر ذاته. درجة تماسك الجماعة المؤمنة، وتواصيها على معنى الصبر، وتعاونها على تكاليف الإيمان. فهي أعضاء متجاوبة الحس. تشعر جميعاً شعوراً واحداً بمشقة الجهاد لتحقيق الإيمان في الأرض وحمل تكاليفه، فيوصي بعضها بعضاً بالصبر على العبء المشترك؛ ويثبت بعضها بعضاً فلا تتخاذل؛ ويقوي بعضها بعضاً فلا تنهزم. وهذا أمر غير الصبر الفردي. وإن يكن قائماً على الصبر الفردي. وهو إيحاء بواجب المؤمن في الجماعة المؤمنة. وهو ألا يكون عنصر تخذيل بل عنصر تثبيت، ولا يكون داعية هزيمة بل داعية اقتحام؛ ولا يكون مثار جزع بل مهبط طمأنينة.
وكذلك التواصي بالمرحمة. فهو أمر زائد على المرحمة. إنه إشاعة الشعور بواجب التراحم في صفوف الجماعة عن طريق التواصي به، والتحاض عليه، واتخاذه واجباً جماعياً فردياً في الوقت ذاته، يتعارف عليه الجميع، ويتعاون عليه الجميع.